العين بالعين
جاءني ... وعلامات البؤس على وجهه الشاحب ودموعه تحفر على خديه آثار ذنب عظيم .. وعلامات الوجوم والاستفهام تتناثر من بين شدقيه ...
جاءني يرتجف وهو يقول في صوت خافت غير مسموع ... ماذا لو أن أبي مات وهو يدعو علي ؟؟ مات وهو غير راض عني ؟؟ كيف أصحح خطأي ؟كيف اغفر ذنبي ؟ كيف ارضي أبي ؟ ما الذي يجب علي فعله حتى اخرج من كابوس أفكاري وضنك حياتي ؟ الذنب كبير .. والأب قد مات .. صاحب الحق ذهب إلى غير رجعة .. فكرت .. وقلبت فيما عندي من معلومات .. حاولت أن أخرج له بفتوى ولكن حال قيد لساني دون النطق ولو ببنت شفة فالأمر أشد من أن افصل له فتوى على مقاسه ترضيه وقد أغضب بها ربي لتجرأي على الفتيا بدون علم .. تلعثمت .. برطمت بكلمات لاأذكر منها سوى عنوان عريض وهو ( عقوق الوالدين ) ............ لو أن الأب باق معنا لهرولنا إليه مسرعين وحايلناه ودايلناه حتى يرضى .. ولكن سبقنا القدر .. سبقنا هادم اللذات ومفرق الجماعات .. ياله من موقف مؤثر حقا ...
نظرت في وجه صديقي ( أحمد ) وقد اسود وجهه الأبيض الناصع واغرورقت عيناه بنهر من الدموع .. علها دموع الندم .. قال لي وقد تأخرت في الرد على استفهاماته .. إيه ؟ مافيش حل .. ما عندك مخرج ؟؟ تذكرت ساعتها ظروف والده الشيخ الضرير .. فاقد البصر بعصاه العوجاء وهو يتحسس الطريق إلى المسجد في ظلمات الليل الدامس وصوته الندي الذي طالما سمعناه وطربنا به في المسجد أو عند المقابر ... رحمك الله ياشيخ ( صادق ) ليتك حيا .. ليتك ماسخطت على ولدك لهذا الحد .. اوقعتنا في ورطة يا شيخنا الفاضل .. رحمك الله .أخذت بيد صاحبي إلى شيخ فاضل صاحب علم فسألناه عن مشكلة صاحبنا فقال له : استغفر لأبيك حتى تشعر أنك قد أرضيته اعمل خيرا وهب أجره إلى روح أبيك .. أطع أمك واطلب منها الدعاء والرضا ..ساعتها هدأت ثورة احمد وارتاح للفتوى وعزم على ألا يسكت عن الدعاء لأبيه وقرر أن يجهز مبردة للمياه يهب أجرها لروح والده علها تبرد على المرحوم ما دعاه للغضب على ابنه ..
تخرج أحمد في إحدى كليات التربية - مدرس رياضيات قد الدنيا – وسافر للتدريس في إحدى الدول العربية وجمع من المال ما جمع .. كون نفسه وأقبل على الزواج واكتمل نصف دينه واستقر به الحال في مدينتنا الصغيرة على ضفاف النيل الخالد وفتح الله عليه بركات من السماء والأرض بل إن زوجته ورثت عن أبيها الكثير . . شاركته في بناء البيت وتأثيثه .. أنجبت له الولد والبنت ... ظننا أن الخير الذي فيه أحمد راجع لتنفيذه وصية الشيخ المفتي .. تسللت إلى إخوته لأسألهم عن علاقته بأمه وكانت المفاجأة ( احمد عاق لأمه ) ....بحثت عنه كثيرا لانشغاله وكثرة مريديه للدروس الخصوصية .. ولما عثرت عليه وذكرته بما عانيناه للحصول على الفتوى قال لي : سوف ننفذ إن شاء الله .. قلت له : ومابال غضب أمك عليك ؟؟ قال : ومن أخبرك بهذا ؟ قلت: أنت أخ ومن حقي البحث في أمورك .. قال : كل حاجة ح تتظبط يا أبا عمار .....
وماهي إلا أيا م معدودة وكانت نهاية الأم كنهاية زوجها .. ماتت الأم .. ذهبت لزيارة زوجها بلا رجعة .. أدركت وقتها أن نهاية صاحبي قد اقتربت ..
صداقتي بأحمد قد ذبلت .. فالأستاذ مشغول دائما .. زمالتي له قد انتهت من يوم أنهينا دراستنا معا .. إلا أن القدر جمعنا كجيران .. فله الآن حق الجيرة فقط .. حياته صارت روتينا مملا .. رايح فين ؟؟ رايح المدرسة .. جاي منين ؟؟ جاي من الدرس .. وراح يجمع المال من هنا وهناك ...وزوجته زميلة له في العمل .. يخرجان صباحا معا وتعود هي بالأولاد من مدارسهم .. وهو في ملكوت آخر ..فاليوم في بيت فلان وغدا في بيت علان لأن كل منهما لديه ولد في الثانوية العامة .. يرجع بعدها إلى بيته منهكا لايعرف للحياة طعما غير هذا الرتم القاتم ..
رصد اللصوص بيت أحمد .. عرفوا موعد خروج الأسرة بأكملها إلى المدرسة .. وأيقنوا موعد رجوع الزوجة بأولادها بعد الظهيرة .. ومن حظهم أن البيت في منطقة جديدة ودب الأرجل في هذه الساعة نادرا .. وضعوا الخطة لسرقة البيت ففي هذه المرة مجوهرات الزوجة وهي ماتبقى من ميراث أبيها .. وبدأ الخراب .. أين أنت ياأحمد ؟؟.. دعوة من أمك كانت هي صمام الأمان لبيتك .. وعاد اللصوص .. وفي هذه المرة أنبوبة الغاز .. وعاد اللصوص .. وفي تلك جهاز التلفاز .. اكثر من ست مرات يزور فيها جنود القصاص بيت جارنا الموعود أخذوا ماغلا ثمنه وخف حمله.. حتى ترك أحمد البيت بلا رجعة باع البيت بأبخس ثمن يظن أن الخلل في مكان البيت .. نسي أن الخلل ملازمه أينما ذهب ..
أحمد يبحث عن أحسن طبيب للعيون .. ترى ما الأمر الذي يستوجب هذا البحث ؟؟ أهو يريد عمل نظارة لأن الدروس الخصوصية أرهقت بصره ؟؟
أبدا والله إنها ملاحقة القدر لهذا العاق ... إنه خالد ابنه .. وقد أصيب بمرض في عينيه أخبره أحسن طبيب عيون في مصر أنه لايصيب أكثر من خمسة في المليون .. أي قدر هذا الذي اختارني لأكون أنا وابني ممن يعدون على أصابع اليد الواحدة هكذا يقول لسان حال صاحبي .. قال أحمد : أدفع كل ماأملك ويعود بصر ابني كما كان ..... الآن ..؟؟ الآن يا أحمد ؟؟ ..
الآن وقد علمت أن الابن عزيز ؟؟ تذكر حنقك على أبيك .. بل تذكر فقدان أبيك المسكين لبصره .. وقد أغضبته إلى أن دعا عليك .. لاأجد سوى ماقال ربي سبحانه في كتابه العزيز :
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص
فكر وحبر / ياسر سنجر