.. كانوا يُسافرون في قطار – أذكر ذلك الآن- غالبني ماراودني مثل هذا الحلم – مثل الطبيعة الصامتة المرقّشة بأشجار صناعية زائفة مثقلة الأغصان بفواكه من الأمواس و المقصات و ادوات حانوت الحلاق المختلفة – أذكر الآن أنه كان يتعين علي قصي شعري – تراءى له ذلك الحلم كثيراً، لكنه لميثر قط ذلك الخوف في اعماقه. هنالك خلف أحدى الأشجرا و قف أخوه، الآخر التوأم، ملوحاً – حدث لي ذلك في الواقع في مكان ما - لكي يوقف القطار. و لما اقتنع بعبث الرسالة التي لوّح بها شرعَ وراء القاطرة الى ان سقَطَ لاهثاً و فد غطّى الزَّبد فمه. كان ذلك حلمه العبثي اللاعقلاني بالطبع، و لكن لم يكُن ثمّة مايدعوه لأن يحدث هذه اليقظة المزعجة. أغمض عينيه من جديد، ولايزال صدغاه ينبضان بدفع الدم الذي سرى هاتفاً في عروقه مثلما فبضة مُطبقة. مضى القطار الى منطقة جدباء، مقفرة، تثير الانقباض في النفس. جعله ألم أحس به في ساقه اليسرى يصرف انتباهه عن المناظر الطبيعية. لاحظ أنه في أصبع قدمه الأوسط- ينبغي ألا استمر في انتعال هذه الأحذية الضيقة. كان هنالك تورّم. وبصورة طبيعية، و كما لو كانت تلك عادته، انتزع من جيبه مفكّاً، وانتزع رأسُ الورَم به. وصغه بعناية في صندوق صغير أزرق- هل بمقدورك أن ترى ألواناً في الأحلام؟- ولمح متطلّعاً من خلال الجرح نهاية خيط دهني أصفر. جذبه دون ان يستشعر ضيقاً او ألماً. بعد لحظة رفع عينيه، فرأى عربة القطار خاوية و أن الوحيد الباقي في عربة أخرى من القطار هو أخوه، الذي يرتدي زي أمرأة، و يقف أمام مرآة محاولاً اقتلاع عينه اليسرى بمقص. .."
".. أغمض عينيه محاولاً تحطيم الإيقاع المتصاعد لتنفسه، استمات ليصل الى موضوع تافه عله يغوص في قرار الحلم الذي انقطع سياقه قبل لحظات. كان بوسعه على سبيل المثال أن يفكر في أنني عليّ خلال ثلاث ساعات أن أمضي الى حانوت إعداد الجنازات لتسديد النفقات. في الركن كان هناك صرار ليل يقظ يرفع الصوت بصريرة و يملأ الغرفة بزوره الحاد القاطع. شرع التوتّر العصبي يتراجع وئيداً و إن يكن على نحو فعّال، فلاحظ من جديد تراخي و مرونة عضلاته. أحس أنه سقط على الوسادة اللينة الغليظة، فيما اجتاح جسده الخفيف الذي تجرّد من الثقل شعور عذب بالبهجة والفتور، و فقد وعيه بهيكله المادي، ذلك الكيان الثقيل الأرضي الذي يحدّده و يضعه في بقعة بعينها لاسبيل الى الخطأ بإزائها في قياس المملكة الحيوانيّة، و الذي يحمل الكثير من الأجهزة والأعضاء المحددة المكان، والذي يرفعه الى القمّة التعسفية للحيوانات العاقلة. تراخت جفونه على عينية مرقشتين بالكرى على النحو الطبيعي ذاته الذي تشابكت به ساقاه وذراعاه في تجميع للأطراف راح يفقد ببطء استقلاله تماماً كما لو كان الكيان بأسره تحول الى كيان واحد كلي، وتخلى هو -الرجل- عن جذوره الفانية ليتغلغل في الجذور الأخرى الأكثر عمقاً وثباتاً، الجذور الخالده لحلم متكامل ومحدّد. في الخارج، ومن الجانب الآخر لدنيا كان بمقدوره أن سمع أغنية صرار اللليل تخفت الى أن اختفت من نطاق حواسه التي دلفت الى الداخل، فغمرته في رحاب مفهوم جديد و بعيد عن التعقيد للزمان والمكان ماحية وجود العالم المادي، العضوي و المؤلم و المتخم بالحشرات و روائح الأقحوان والفورمالدهايد الخانقة. .."
جابرييل جارسيا ماركيز / روائي وقاص من كولومبيا/ نوبل 1982