حين يفقد الإنسان كل شيء، و حين يلتفت يمينا و شمالا فلا يجد إلا نفسه..يحاول أن يفهم ما الذي يجري و أين مضى كل أولئك الناس الذين كانوا يحيطون به قبل قليل...يقلب كفيه، يجول ببصره، يحاول أن يصيح...يجري وراء الناس ليمسك بتلابيبهم حتى لا يفلتوا منه و يدَعوه وحيدا...لا أحد يكترث به، كلّ منهمك في أشغاله و كل ماض في دربه نحو مبتغاه...ينظر إلى كل واحد منهم، يحاول أن يقتفي آثارهم حتى لا يبدده الجمود، يخطو خطوة مترددة نحو الأمام و خطوتين نحو الوراء...تمزقه الحيرة و تتقاذفه الرياح...تتجمع غيوم كثيفة أمام عينيه، تحجب عنه الرؤية، يمر من منعرجات و عقبات، غير أنه لا يبصر بوضوح، تخبط قدماه خبط عشواء، يحس أن الوحل يصل إلى فخذيه، يتملكه شعور بالضياع و الذوبان في الظلام...يحاول أن يفعل شيئا لا يعلمه، لكن يديه لا تساعدانه لأنهما شُلّتا فجأة...السيارات تمر بسرعة خاطفة في المنحى المعاكس، تنعكس الأضواء على وجهه..يود لو أنه مثلهم، لو أنه يتحرك في اتجاه معين، لكن لا شيء في كيانه يؤيده، كل شيء مدمر و كل شيء يحتاج إلى ترميم...لكن من سيرمم نفسه غير نفسه؟!....فكم مرة مد يده في الظلام علّ فاعل خير تأخذه رأفةٌ فيمسك بها ويقوده معه في دربه...لكن لا سميع لاستغاثاته...
يقف أمام المرآة حتى يحس بوجود كيان آخر بقربه، صورة مشوهة عن نفسه ترتسم في المرآة، يندهش، يرجع إلى الوراء حتى يتبين حقيقة الشخص الماثل أمامه...إنها نفس الملامح، لكن الشيب يعلو شعره، و التجاعيد قد غدت وديانا في وجهه، و العينان أصابهما غور شديد...يكاد يصاب بالجنون، ما الذي حوّله إلى هذه الجثة المتحركة؟!...يرجع البصر كرّتين علّ الصورة تتغير..لكنها لا تزداد إلا بشاعة...
يكسر المرآة ثم يولي هاربا...لا يدري إلى أين يتجه، المهم أن يهرب من ذلك الشخص، من نفسه...يجري و هو يغمض عينيه، يجري في الاتجاه المعاكس للزمن، فتنهال عليه الذكريات كزخات مطر غزير، تتلاحق في ذهنه صور الماضي..يبصر نفسه في الماضي، طفل غضّ مفعم بالحياة و الأمل، طفل لا تعرف شفتاه إلا البسمة، و لا يعلم الحياة إلا باقة من الورد الندي أو فراشة خالدة...ينغمس في الماضي، يجد نفسه وسط الزحام، يبحث بين الناس عن ذلك الطفل، لا يأبه بمن حوله، كل ما يهمه أن يعثر على ذلك الطفل المشرق....و إذا به يلوح له من بعيد، قابع في أحد الأركان يخط خطوطا و أشكالا بملوناته على أوراق بيضاء..يمضي نحوه بسرعة، يقترب منه في لهفة، فينهال عليه بالقُبل رغم أنه لم يعد يجد معنى للتقبيل...يعانقه في شدة و يحضنه في صدره الذي طالما امتلأ بأكوام سوداء...يشم في ثيابه رائحة الأمل و نسيم الطفولة و عبق البراءة و السعادة...يسري الدم في شريانه من جديد، و يدق قلبه دقات وئيدة بعد أن طال توقفه عن النبض...ينقشع الضباب و يتحرك عقرب الساعة الذي طاله الصدأ...يحس بألم في عينيه إثر النور المتسلل من وراء السحب المولية...يفتح عينيه ليبصر الطفل بوضوح، لكنه لا يجد شيئا...ينتصب بسرعة و يلتفت يمنة و يسرة فلا يجده، يهُمّ بالهروب ثانية فيسمع صوتا شجيا يناديه من أعماقه في ثبات : أنا بداخلك، أنا جزء منك...لقد وُلدتَ من جديد...
أي صوت بي ينادي هاتفا حلو البيان
قم إلى أسمى مراد سابقا خطو الزمان
قم و بادر يا صديقي عمرك المحدود هديا
في سبيل في طريق مشرق بالنور هيا
و ابتسم للدهر دوما إن يكن حلوا و مرا
و لتقل إن ذقت هما إن بعد العسر يسرا
عمرنا في الأرض رحلة ما لنا فيها اختيار
جولة من بعد جولة كل ما فيها اختبار
تارة تنهل أُنسا تارة تشتد كربا
و الفتى من ليس ينسى أن للإنسان ربا